دواء أوروبي للمريض العربي

دواء أوروبي للمريض العربي

دواء أوروبي للمريض العربي

 الالأردن اليوم -

دواء أوروبي للمريض العربي

بقلم ـ غسان شربل

منذ سنوات يأتي إلى المقهى القريب من منزله. يجلس مع كتابه وصحيفته وفنجان القهوة ثم يغادر. في بدايات الثمانينات لا يبقى غير التحايل على الوقت. والتنبه لتقلبات الطقس. وتوزيع الراتب التقاعدي بحكمة على الأيام. ومحاولة الانصياع لأوامر الأطباء. وإحصاء من بقي من الأصدقاء.

لا يحب الغوص في السياسة. يعتبر أن الخوض فيها يستلزم إلماماً دقيقاً بالتفاصيل. هذا لا يلغي أنه ناقم بشدة على رئيس الوزراء البريطاني الأسبق طوني بلير. قال إن بريطانيا ارتكبت في التاريخ ما يكفي من الأخطاء، ولم تكن تحتاج إلى خطأ جديد من قماشة ما فعلت في غزو العراق. شدد على أن ليس من حق بلاده إطاحة حاكم وتنصيب آخر. ربما يمكن للأمم المتحدة الاضطلاع بمثل هذا الدور عند الضرورة القصوى. وليس من حق بريطانيا أن تسقط نظاماً ثم تنسحب تاركة وراءها حرباً تأكل البشر والحجر.

في الآونة الأخيرة أضيفت إلى أحزان العمر أحزان أخرى. شارك الرجل في الاستفتاء حول الخروج من الاتحاد الأوروبي. ذهب وأدلى بصوته مؤيداً البقاء في البيت الأوروبي. لم يخطر بباله أبداً أن أكثرية البريطانيين ستختار الطلاق. فجعته النتائج.

قال إن البريطانيين ارتكبوا في الاستفتاء خيانة صارخة لحلم كبير اسمه البيت الأوروبي. ولفت إلى أن الحلم طُعن على أيدي أناس بلا ذاكرة تناسوا أن هذا الحلم قام بعد مأساة مروعة شهدتها القارة وأدمت العالم معها.
لفت إلى مسألة شديدة الخطورة. سأل: هل يمكن وضع إنجاز هائل بهذا الحجم في أيدي أجيال بات يمكن التلاعب بمشاعرها عبر وسائل التواصل الاجتماعي؟ وحذر من أن عملية التلاعب هذه على أيدي شعبويين يوزعون الشعارات البراقة يمكن أن تأخذ العالم إلى مغامرات كان يعتقد أنها صارت من التاريخ.

أكد أنه بريطاني صادق. ويعتز بجذوره. لكن انتماءه هذا ليس موجهاً ضد الآخرين. وأنه أوروبي بمقدار ما هو بريطاني. وأنه سعيد لأن حفيداً له يعمل في إسبانيا وآخر في بلجيكا. وأنه يعتبر وجود الأوروبيين الآخرين في بريطانيا طبيعياً ومصدر ازدهار واستقرار. وكشف أن الحلم الأوروبي أشعره بالثراء والتنوع ولقاء التجارب وفرص التعاون لمعالجة المشكلات. وأن قرار الخروج أصابه بما يشبه تقليص الحلم ومساحة التحرك وخوف العودة إلى الأقفاص التي تنتعش فيها الوطنيات المتورمة والادعاءات الضارة والكراهيات القديمة.

روى لي أنه كان صغيراً يوم كانت الطائرات الألمانية تنقض على بريطانيا. وكيف بدت المدن في أعقاب الحرب أشبه بحقول من الأيتام والأرامل والركام والروايات الحزينة. قال إن وحوش التاريخ استيقظت في تلك الفترة فتمزقت الخرائط وتهشمت العواصم ولم يبق غير رائحة الخوف والموت والتحدي والعرق والدموع.

من تلك الأهوال وُلِد الحلم الأوروبي. قرر الأوروبيون أن الوقت حان لدفن كراهيات التاريخ وخناجره. اتخذوا قراراً كبيراً جوهره التفكير في مستقبل أحفادهم بدل الاستمرار في خوض حروب أجدادهم. صارت الحروب البريطانية - الفرنسية المديدة مجرد مادة متروكة في عهدة المؤرخين. ومثلها الحروب الألمانية - الفرنسية الطاحنة. قرر الأوروبيون إنقاذ أطفالهم وأحفادهم من هتلر وأشباهه.

سر البيت الأوروبي المؤسسات. المؤسسات التي تضمن وتحاسب وتخطط وتستبق. القضاء المستقل. الإدارة الحديثة المتطورة. حرية التعبير. هذه المؤسسات حالت دون وقوع أوروبا في حروب شبيهة بحروب الماضي. الانفجار اليوغوسلافي كان استثناء. المؤسسات الأوروبية هي التي سمحت للقارة باستيعاب حدث يعادل حرباً عالمية هو انهيار الإمبراطورية السوفياتية.

كنت أستمع إلى الصديق البريطاني وأفكر في الشرق الأوسط الرهيب، وتحديداً في موقع العرب فيه. ما تعرضت له بلدان عربية عدة من خسائر بشرية ومالية وتفككات واستباحات يعادل حرباً عالمية. فضحتنا العواصف. نملك دولاً مرشحة للتفكك. وشعوباً جاهزة للتهجير. وانتفاضات قابلة للإجهاض. وجيوشاً يقل ولاؤها عن الخريطة، وإن فاضت أحقادها عنها. نملك نساء جاهزات للترمل. وأطفالاً موعودين باليتم. وحدها المؤسسات يمكن أن تنقذنا من هذه الإقامة الطويلة في الجحيم.

متى تستيقظ شعوبنا؟ وأين جامعاتنا؟ وأين الكتّاب والرواد؟ نكاد نستعذب الإقامة في الظلام كالخفافيش. نريد التنمية والتقدم والكرامة. ونريد مدناً وجامعات وفرص عمل. ونريد مؤسسات تخطط وتحاسب. شبعنا من الإقامة على رصيف التاريخ. نريد الذهاب إلى المستقبل وإنقاذ أحفادنا من مصير أجدادنا.

لن نغادر الشرق الأوسط الرهيب إذا تمسكنا بخناجر أجدادنا وثاراتهم وعصبياتهم. نريد أفكاراً أخرى مفتوحة على العصر والغد. نريد أن نكون أمة طبيعية ومحترمة. لن نغادر عصر الخراب العربي إلا إذا تعلمنا من كارثتنا كما تعلمت أوروبا من كارثتها. لا يكفي أن تخلع ثياب جدك. يجب أن تخضع أفكارك الموروثة لامتحان العصر. لن تسافر إلى المستقبل إن لم تتخفف من أثقال العصبيات وشحنات الظلام.

jordantodayonline

GMT 00:33 2020 الأربعاء ,04 تشرين الثاني / نوفمبر

عن ردع إيران إقليمياً ودولياً

GMT 00:24 2020 الأربعاء ,04 تشرين الثاني / نوفمبر

لكنْ ماذا عن المسلمين أنفسهم؟

GMT 00:20 2020 الأربعاء ,04 تشرين الثاني / نوفمبر

العرب بين أميركا بايدن أو ترمب

GMT 00:15 2020 الأربعاء ,04 تشرين الثاني / نوفمبر

أسبوع عالمي «إرهابي» بامتياز

GMT 00:04 2020 الأربعاء ,04 تشرين الثاني / نوفمبر

حرمان الأمومة... مرتين

GMT 00:38 2020 الثلاثاء ,03 تشرين الثاني / نوفمبر

من يفوز اليوم في الانتخابات الأميركية الفيل أم الحمار..؟

GMT 18:23 2020 الإثنين ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

نكات وأقوال أغلبها عن النساء

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

دواء أوروبي للمريض العربي دواء أوروبي للمريض العربي



ارتدت فستانًا أسود دون أكمام وبقصّة الأوف شولدرز

سيرين عبدالنور تخطف أنظار متابعيها في أحدث إطلالاتها

القاهره_العرب اليوم

GMT 02:25 2017 الجمعة ,01 كانون الأول / ديسمبر

علماء الآثار يكشفون سر مومياء طفلة مصرية في حوارة

GMT 20:57 2018 الأربعاء ,19 أيلول / سبتمبر

هل العلاج النفسي مهم لصحة طفلك؟

GMT 06:48 2017 الخميس ,26 تشرين الأول / أكتوبر

فيلم "بريدجيت جونز" يلهم رواد الموضة في شتاء 2017

GMT 02:46 2017 الثلاثاء ,10 تشرين الأول / أكتوبر

دراسة حديثة تكشف تأثير التأمل على أنشطة الدماغ

GMT 18:06 2015 الإثنين ,09 تشرين الثاني / نوفمبر

فول الصويا المحمص لخفض ضغط الدم ما بعد انقطاع الطمث
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Jordantodayonline Jordantodayonline Jordantodayonline Jordantodayonline
jordantodayonline jordantodayonline jordantodayonline
jordantodayonline
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab